وقف على رصيف إحدى الشوارع المزدحمة وهو يتطلّع يمنةً ويسرةً ليتأكّد
من خلوّ الطريق، ثم انطلق مسرعاً إلى الرصيف المقابل، فإذا بسيّارة مسرعة
تصطدم به وتحيله جثّة هامدة، ومن بين الجموع التي تقاطرت لمشاهدة المأساة
قال أحدهم: وقع عليه قدر الله عز وجل، فردّ عليه آخر: بل التعبير الأوفق
أن نقول: هذا قضاء الله، ومثله ذلك يرد كثيراً في كلام الناس .
وقد وقع الاختلاف في التعبير عن ذلك في كلام السلف رحمهم الله، إذ تباينت
أقوالهم في تحديد وجه المفارقة بين قضاء الله وقدره، وقبل بسط القول
والشروع في البيان، يحسن التمهيد بإلماحةٍ سريعة تبيّن مفهوم "القضاء"
و"القدر"، فإذا استبان كلّ مفهوم واتضح معناه أمكن للمرء أن يعقد المقارنة بينهما.
أما القدر، فيعود معناه إلى التقدير، فيُقال: قدّر الله نزول المطر
تقديراً، فيكون معنى القدرِ متعلّقاً بتحديد مقادير ما يكون في المخلوقات
من الأفعال والأحداث والصفات والهيئات، بمعنى أن يختصّ كل مخلوقٍ بتحديدٍ
إلهيّ يتعلّق بصفات خاصّةٍ به تميّزه عن غيره، وبأفعالٍ تكون منه بعد حدوثه.
والله سبحانه وتعالى قد جعل لكل شيءٍ قدراً،
وهذا القدر متضمّن لعلم الله تعالى بما يكون من مخلوقاته قبل وجودها علماً مفصّلاً.
ومن طريق الشرع علمنا أن هذا القدر مكتوبٌ في اللوح المحفوظ ، فقد صحّ عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قوله: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) رواه مسلم، ثم إن هذا المقدّر جارٍ على مشيئته سبحانه وتعالى: { وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين} (التكوير:29)، والله خالق كلّ شيء، ويشمل ذلك ما تُحدثه المخلوقات من أفعال: {والله خلقكم وما تعملون} (الصافات:96)، فهذه أمورٌ أربعة يشتمل عليها مفهوم القدر.
قال الإمام ابن القيّم: " والقدر عندهم
–أي عند أهل السنة والجماعة-:قدرة الله تعالى وعلمه ومشيئته وخلقه فلا
يتحرك ذرة فما فوقها إلا بمشيئته وعلمه وقدرته".
أما القضاء فهو إتقان الأمر وإحكامه وإنفاذه، وكل ما أحكم فقد قضي، والعرب تقول: قضيت هذه الدار أي أحكمت عملها، يوضّح الإمام ابن الأثير
ذلك: " القضاء في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه. وكل ما
أحكم عمله، أو أتم، أو ختم، أو أدي، أو أوجب، أو أعلم، أو أنفذ، أو أمضي
فقد قضي"، وقد يأتي بمعنى القدر، ومثاله قوله تعالى: { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} (الحجر:66)، ومعناه الإعلام المبني على التقدير.
ويبقى السؤال بعد ذلك: هل القضاء والقدر أمرٌ واحد لا فرق بينهما، أم أن التباين واقع؟ وإن كان ثمّة فرقٌ فما هي حقيقته؟
للعلماء في ذلك عدّة أقوال، نجملها فيما يلي:
القول الأوّل: قول أبي حامد الغزالي، ومفاده
أن ثلاثة أمور بالنسبة لتدبير الله وخلقه، الحكم: وهو التدبير الأول
الكلّي والأمر الأزلي، والقضاء: وهو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة
–ومقصوده إيجاد الأسباب وتقديرها-، والقدر: وهو توجيه الأسباب الكلية
بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدودة بقدر معلوم لا
يزيد ولا ينقص.
القول الثاني: أن القضاء هو الحكم الكلّي الإجمالي في الأزل، والقدر:
جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله، وهذا القول نسبه الحافظ ابن حجر إلى بعض العلماء.
القول الثالث: أن القدر بمنزلة إعداد المكيال والميزان، والقضاء بمنزلة القيام بالوزن،
وهذا كما قال أبو عبيدة لعمر بن الخطاب
رضي الله عنه لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: أتفرّ من القضاء؟ قال:
أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله، تنبيهاً على أن القدر ما لم يكن قضاءً
فمرجوٌ أن يدفعه الله، فإذا قضي فلا مدفع له.
القول الرابع: إن القضاء راجع إلى التكوين كخلق الله الإنسان على ما هو
عليه طبق الإرادة الأزلية. والقدر هو التقدير، وهو جعل الشيء بالإرادة على
مقدار محدد قبل وجوده، ثم يكون وجوده في الواقع بالقضاء على وفق التقدير،
كإرادته تعالى في الأزل إيجاد الإنسان على وجه مخصوص وصورة مخصوصة محددة
المقادير.
القول الخامس: القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل على الموجودات،
والقدرُ هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق.
القول السادس: ما ذكره الراغب الأصفهاني أن القضاء من الله أخص من القدر؛
لأنه الفصل بين التقدير؛ فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع.
القول السابع: أن القدر هو وجود الأفعال على مقدار الحاجة إليها والكفاية
لما فعلت من أجله، وعلى الوجه المقدّر، والقضاء هو فصل الأمر على التمام.
القول الثامن: أنه لا فرق بين القضاء والقدر؛ فكل واحد منهما بمعنى الآخر؛
فإذا أطلق التعريف على أحدهما شمل الآخر؛ ويعبر عن كل واحد منهما كما يعبر
عن الآخر؛ فهما مترادفان من هذا الاعتبار.
وإذا أمعنّا النظر في الأقوال السابقة وفي الأصول اللغوية للمصطلحين،
يمكننا القول أن ثمّة فرقاً دقيقاً بين كلا اللفظتين، فالقدر هو التقدير،
والقضاء: هو الخلق، على أن بينهما تلازمٌ وارتباطٌ لا يمكن إغفاله، لأن
أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء؛ فمن
رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه كما ذكر العلماء، والأقرب أن
يُقال: إن القضاء والقدر من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت، فدلّ كلٌّ
منهما على معناه الخاصّ به، وإذا افترقت اجتمعت، أي شمل كلّ منهما معنى
الآخر، خصوصاً ما يتعلّق بمراتب القدر الأربعة: العلم والكتابة والمشيئة
والخلق.
وعليه فإننا نقول للمتخاصمين الذيْن اختصما في أوّل المقالة: "يمكنكما
القول أن الحادثة هي من قضاء الله، وأنها من قدره سبحانه، فكلاكما على حق
وعلى صواب، والمسألة يسيرة ولا مشاحة في الاصطلاح، ولا يترتّب على هذه
المسألة أي ثمرة".
من خلوّ الطريق، ثم انطلق مسرعاً إلى الرصيف المقابل، فإذا بسيّارة مسرعة
تصطدم به وتحيله جثّة هامدة، ومن بين الجموع التي تقاطرت لمشاهدة المأساة
قال أحدهم: وقع عليه قدر الله عز وجل، فردّ عليه آخر: بل التعبير الأوفق
أن نقول: هذا قضاء الله، ومثله ذلك يرد كثيراً في كلام الناس .
وقد وقع الاختلاف في التعبير عن ذلك في كلام السلف رحمهم الله، إذ تباينت
أقوالهم في تحديد وجه المفارقة بين قضاء الله وقدره، وقبل بسط القول
والشروع في البيان، يحسن التمهيد بإلماحةٍ سريعة تبيّن مفهوم "القضاء"
و"القدر"، فإذا استبان كلّ مفهوم واتضح معناه أمكن للمرء أن يعقد المقارنة بينهما.
أما القدر، فيعود معناه إلى التقدير، فيُقال: قدّر الله نزول المطر
تقديراً، فيكون معنى القدرِ متعلّقاً بتحديد مقادير ما يكون في المخلوقات
من الأفعال والأحداث والصفات والهيئات، بمعنى أن يختصّ كل مخلوقٍ بتحديدٍ
إلهيّ يتعلّق بصفات خاصّةٍ به تميّزه عن غيره، وبأفعالٍ تكون منه بعد حدوثه.
والله سبحانه وتعالى قد جعل لكل شيءٍ قدراً،
وهذا القدر متضمّن لعلم الله تعالى بما يكون من مخلوقاته قبل وجودها علماً مفصّلاً.
ومن طريق الشرع علمنا أن هذا القدر مكتوبٌ في اللوح المحفوظ ، فقد صحّ عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قوله: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) رواه مسلم، ثم إن هذا المقدّر جارٍ على مشيئته سبحانه وتعالى: { وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين} (التكوير:29)، والله خالق كلّ شيء، ويشمل ذلك ما تُحدثه المخلوقات من أفعال: {والله خلقكم وما تعملون} (الصافات:96)، فهذه أمورٌ أربعة يشتمل عليها مفهوم القدر.
قال الإمام ابن القيّم: " والقدر عندهم
–أي عند أهل السنة والجماعة-:قدرة الله تعالى وعلمه ومشيئته وخلقه فلا
يتحرك ذرة فما فوقها إلا بمشيئته وعلمه وقدرته".
أما القضاء فهو إتقان الأمر وإحكامه وإنفاذه، وكل ما أحكم فقد قضي، والعرب تقول: قضيت هذه الدار أي أحكمت عملها، يوضّح الإمام ابن الأثير
ذلك: " القضاء في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه. وكل ما
أحكم عمله، أو أتم، أو ختم، أو أدي، أو أوجب، أو أعلم، أو أنفذ، أو أمضي
فقد قضي"، وقد يأتي بمعنى القدر، ومثاله قوله تعالى: { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} (الحجر:66)، ومعناه الإعلام المبني على التقدير.
ويبقى السؤال بعد ذلك: هل القضاء والقدر أمرٌ واحد لا فرق بينهما، أم أن التباين واقع؟ وإن كان ثمّة فرقٌ فما هي حقيقته؟
للعلماء في ذلك عدّة أقوال، نجملها فيما يلي:
القول الأوّل: قول أبي حامد الغزالي، ومفاده
أن ثلاثة أمور بالنسبة لتدبير الله وخلقه، الحكم: وهو التدبير الأول
الكلّي والأمر الأزلي، والقضاء: وهو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة
–ومقصوده إيجاد الأسباب وتقديرها-، والقدر: وهو توجيه الأسباب الكلية
بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدودة بقدر معلوم لا
يزيد ولا ينقص.
القول الثاني: أن القضاء هو الحكم الكلّي الإجمالي في الأزل، والقدر:
جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله، وهذا القول نسبه الحافظ ابن حجر إلى بعض العلماء.
القول الثالث: أن القدر بمنزلة إعداد المكيال والميزان، والقضاء بمنزلة القيام بالوزن،
وهذا كما قال أبو عبيدة لعمر بن الخطاب
رضي الله عنه لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: أتفرّ من القضاء؟ قال:
أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله، تنبيهاً على أن القدر ما لم يكن قضاءً
فمرجوٌ أن يدفعه الله، فإذا قضي فلا مدفع له.
القول الرابع: إن القضاء راجع إلى التكوين كخلق الله الإنسان على ما هو
عليه طبق الإرادة الأزلية. والقدر هو التقدير، وهو جعل الشيء بالإرادة على
مقدار محدد قبل وجوده، ثم يكون وجوده في الواقع بالقضاء على وفق التقدير،
كإرادته تعالى في الأزل إيجاد الإنسان على وجه مخصوص وصورة مخصوصة محددة
المقادير.
القول الخامس: القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل على الموجودات،
والقدرُ هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق.
القول السادس: ما ذكره الراغب الأصفهاني أن القضاء من الله أخص من القدر؛
لأنه الفصل بين التقدير؛ فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع.
القول السابع: أن القدر هو وجود الأفعال على مقدار الحاجة إليها والكفاية
لما فعلت من أجله، وعلى الوجه المقدّر، والقضاء هو فصل الأمر على التمام.
القول الثامن: أنه لا فرق بين القضاء والقدر؛ فكل واحد منهما بمعنى الآخر؛
فإذا أطلق التعريف على أحدهما شمل الآخر؛ ويعبر عن كل واحد منهما كما يعبر
عن الآخر؛ فهما مترادفان من هذا الاعتبار.
وإذا أمعنّا النظر في الأقوال السابقة وفي الأصول اللغوية للمصطلحين،
يمكننا القول أن ثمّة فرقاً دقيقاً بين كلا اللفظتين، فالقدر هو التقدير،
والقضاء: هو الخلق، على أن بينهما تلازمٌ وارتباطٌ لا يمكن إغفاله، لأن
أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء؛ فمن
رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه كما ذكر العلماء، والأقرب أن
يُقال: إن القضاء والقدر من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت، فدلّ كلٌّ
منهما على معناه الخاصّ به، وإذا افترقت اجتمعت، أي شمل كلّ منهما معنى
الآخر، خصوصاً ما يتعلّق بمراتب القدر الأربعة: العلم والكتابة والمشيئة
والخلق.
وعليه فإننا نقول للمتخاصمين الذيْن اختصما في أوّل المقالة: "يمكنكما
القول أن الحادثة هي من قضاء الله، وأنها من قدره سبحانه، فكلاكما على حق
وعلى صواب، والمسألة يسيرة ولا مشاحة في الاصطلاح، ولا يترتّب على هذه
المسألة أي ثمرة".